توفه يانسون، نزهة، 1930
ترجمة: مشاعل مجرشي
المومين محبوبون في أنحاء العالم كافة، لكن ماذا نعرف حقًا عن مبتكرتهم، توفه يانسون؟
توفه يانسون، الفتاة المدخّنة (بورتريه ذاتي)، 1940 من مجموعة خاصة | تصوير: المعرض الوطني الفنلندي / يحيى إيويس © شخصيات المومين (Moomin Characters)
يضمّ متحف هلسنكي للفنون أربعًا من جداريات توفه يانسون، لوحات فريدة تنبض بالجمال لكنها لم تُعرف كثيرًا خارج فنلندا. ومع أنها أقل شهرة من عالم المومين، فإنها تكشف لجمهور عالمي مأخوذ بسحر تلك الشخصيات الممتلئة اللطيفة، أن يانسون كانت أكثر بكثير من مجرد رسّامة قصص أطفال.
أنجزت هذه الجداريات لصالح جهات متنوعة، مثل مستشفى للأطفال، ومصنع للكهرباء، ومطعم، وهي تُجسّد رؤيتها الفنية المتقدة، شغفها بأعمال ماتيس، وإيمانها بأن الفنّ ليس ترفًا، بل دواءٌ يساعد على الصفاء والسكينة.
توفه يانسون، حفلة في الريف، 1947 © مؤسسة توفه يانسون | تصوير: متحف هلسنكي للفنون (HAM) / هانا كوكوريلي
توفه يانسون ونييلو سويهكو أثناء رسم جدارية حفلة في الريف في قاعة مدينة هلسنكي، بمطعم كاوبونغينكللاري © متحف مدينة هلسنكي / تصوير: فوتو روس
وُلدت توفه يانسون في كنف عائلة يفيض منها الإبداع؛ كانت والدتها، سيغني هامارستن، رسّامة سويدية، أما والدها، فيكتور يانسون، فكان نحاتًا بارزًا. لذا، لم يكن مفاجئًا أن تقودها مخيلتها النابضة منذ وقت مبكر إلى درب الفن، وكأنها تواصل سيرة بدأت قبل أن تُولد.
شرعت توفه في الرسم وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وبعد إنهاء دراستها في كلية الفنون التطبيقية في ستوكهولم، عادت إلى فنلندا لتلتحق بمدرسة الرسم التابعة لجمعية الفن الفنلندية في متحف أتينيوم.
واحدة من أوائل لوحاتها، منظر طبيعي غامض (1930)، المرسومة بدرجات الأزرق الكئيب، كانت في جوهرها محاولة لاكتشاف فنّ السرد البصري، إذ تنقل المُشاهد إلى بُعد آخر يشبه عوالم من الخيال حيث يلتقي الغامض بالمجهول.
توفه يانسون، منظر طبيعي غامض، 1930 متحف الفن أتينيوم | تصوير: المعرض الوطني الفنلندي / هانو آل تونن
لكن لوحاتها لم تكن مجرّد أعمال فنية بصرية، بل كانت نافذتها لتجسيد مزاجها، والأهم من ذلك، وسيلتها العميقة للتعبير عن ذاتها.
فقد شكّل فنّ البورتريه الذاتي مساحةً لطالما عادت إليها طَوال مسيرتها، لأنه منحها مرآةً تتأمل من خلالها مشاعرها الخاصة، وعلاقاتها بالعالم وبالوجوه المقرّبة من قلبها.
كما في أعمال مثل الفتاة المدخّنة (1940) أو وشاح الوشق (1942)، لم تكن ترسم وجهها فقط، بل كانت تُعلن عن كبريائها، وقوتها الداخلية، وعزمها على المضيّ كما هي دون تنازل، ودون تزييف.
توفه يانسون، وشاح الوشق (بورتريه ذاتي)، 1942 من مجموعة خاصة | تصوير: المعرض الوطني الفنلندي / يحيى إيويس
تُعدّ واحدة من أبرز أعمال يانسون وأكثرها كشفًا للنفس هي لوحتها الجماعية التي تصوّر فيها عائلتها بأكملها. رسمتها خلال الحرب العالمية الثانية، فجاءت كرمز مزدوج: لصراعات الحرب من جهة، وللتوترات الدقيقة داخل بنية العائلة من جهة أخرى. في قلب التكوين، تصوّر يانسون نفسها مرتديةً السواد بالكامل، كما لو أنها في حالة حداد، بينما يقف والدها ووالدتها — كلاهما فنان — إلى جانبيها، ويتقدّم المشهد شقيقاها، منهمكين في مباراة شطرنج تبدو وكأنها استعارة لصراعٍ أوسع. لوحة الألوان وطريقة استخدام الريشة تُشبه ما اعتمدته في بورتريهاتها الذاتية، لكنها هنا لا تكتفي بالتأمل في الذات، بل تعلن موقعها الجديد؛ وكأنها تُؤسّس، عبر حضورها القوي في مركز اللوحة، لبداية عهد جديد أخلاقيًا وفنيًا.
توفه يانسون، العائلة، 1942 من مجموعة خاصة | تصوير: المعرض الوطني الفنلندي / هانو آل تونن
كما تقول ابنة شقيقها، صوفيا يانسون، المديرة الإبداعية لشخصيات المومين: “توفه كانت تُولي أهمية بالغة لأن تُعرَف كفنّانة موهوبة، لا كمبتكرة المومين فحسب. لقد كانت تحاول دومًا أن توازن بين شغفها بالرسم ومشاريعها الأخرى من جهة، وبين متطلبات عالم المومين التي لم تفارقها طَوال حياتها من جهة أخرى، وقد كان ذلك صراعًا دائمًا في داخلها.”
ويكشف المعرض الذي يختتم جولته العالمية في غاليري دولويتش عن فنانة مرّت بمراحل متعددة في رحلتها الإبداعية من رسّامة شابة ثاقبة النظرة، ذات ولع واضح بالانطباعيين، إلى فنّانة غيّرتها الحرب العالمية الثانية تغيّرًا عميقًا.
توفه يانسون في مرسمها | © بير أولوف يانسون
تمامًا كما كانت والدتها — التي ورثت عنها بلا شكّ انضباطها وحيويّتها — أبدعت توفه يانسون عددًا هائلًا من الرسوم التوضيحية بأساليب متنوّعة.
فإلى جانب بطاقات المعايدة، صمّمت البطاقات البريدية، وعملت مع عدد من الصحف والمجلّات. مهارتها اللافتة في فنّ الكاريكاتير جذبت انتباه مجلّة Garm الساخرة سياسيًا، والتي أصبحت لاحقًا منبرًا ثابتًا لها، حيث رسمت أكثر من خمسين غلافًا من أغلفتها. وعلى عكس لوحاتها الزيتية التأملية، أتاحت لها هذه الرسوم فرصة التعبير الصريح عن ازدرائها للظلم السياسي وعبثية الحروب. وفي زمنٍ كانت فيه دول الشمال الأوروبي تُفاخر بـ”حيادها”، اختارت توفه موقفًا نقيضًا، إذ لم تتردّد في معارضة الأنظمة القمعية مثل النازية، ولم تخشَ إعلان رأيها علنًا.
ولم تُخفِ نفسها خلف اسم مستعار، بل نشرت أعمالها باسمها الكامل، واثقة من صوتها، ثابتة في موقفها
توفه يانسون، غلاف لمجلة Garm، 1944 متحف تامبيري للفنون – وادي المومين | تصوير: المعرض الوطني الفنلندي / يحيى إيويس © شخصيات المومين (Moomin Characters)
على غلاف مجلّة Garm، ظهر مومينترول لأول مرة تقريبًا دون أن يُلحظ وسط رسوم “هتلر السارق”. ففي أسفل حرف “M”، يختبئ كائن صغير بأنفٍ بارز، يُطلّ بحذر من زاوية الغلاف ، لمسة خفية تُعلن ولادة عالم سيتّسع لاحقًا للخيال والأمل. تركت الحرب أثرًا لا يُمحى في وجدان توفي يانسون، وأصبحت خلفية سردية لأول كتابين من سلسلة المومينترول.
تجربة الانتظار القَلِق داخل الملاجئ أوجدت روح Comet in Moominland وThe Moomins and the Great Flood؛ الثاني تحديدًا هو سردية كارثية عن رحلة البحث عن “مومينبابا” المفقود. ورغم أنها كُتبت للأطفال، كانت تلك القصص مشبعة بتأملات حول الفقد، والدمار، والبحث عن الأمان مما جعلها بعيدة في بدايتها عن النجاح التجاري المتوقع.
لكن الحظ ابتسم لها حين وجدت ناشرًا جديدًا وافق على المجازفة، وأصدر كتابها الثالث Finn Family Moomintroll، الذي فتح للمومينز بابًا نحو عالم أوسع، لتبدأ رحلتهم الحقيقية نحو الشهرة العالمية.
توفه يانسون، رسم توضيحي لكتاب المذنب في وادي المومين، 1946
الطبيعة الفنلندية بغاباتها الكثيفة، وظلالها الوارفة، وأرخبيلها الذي كانت توفي تبحر عبره مرارًا تتغلغل بعمق في أعمالها، وقد شكّلت بلا شكّ الملامح البصرية لوادي المومين.
من خلال عالم المومين، وجدت توفي يانسون مساحة رحبة لاستكشاف طيف واسع من الموضوعات، من الأخلاق والعلاقات الشخصية. فكثير من شخصياتها استُلهمت بوضوح من أصدقاء ومحبّين مقرّبين، بل كانت تمثيلات رمزية علنية لهم.
ورغم أن توفه عادت أكثر من مرة في مسيرتها إلى حبّها الأول، الرسم، فإنها ستُذكَر دومًا بتلك المخلوقات الغريبة والرقيقة التي تحدّت مصاعب العالم، وواصلت المسير بثبات وسحر لا يُقاوم.