لماذا تُعد «لاس مينيناس» لفيلاسكيز عملًا مفصليًا في تاريخ الفن؟

single

لاس مينيناس، 1656، دييغو فيلاسكيز

 

هوارد هالي

ترجمة: بشاير عبدالرحمن

 

يُعدّ تصوير دييغو فيلاسكيز عام 1656 للأميرة الإسبانية وحاشيتها واحدًا من أعمدة الفن الغربي، إن لم يكن أكثر أعمال أساتذته القدامى تعقيدًا من الناحية المفاهيمية. فلوحة «لاس مينيناس» ليست مجرد مشهد من البلاط الإسباني، بل هي متاهة بصرية وفكرية تتلاعب بأسس الرؤية والإدراك، وتضع المتلقي أمام تساؤل وجودي صريح: ما الذي تراه حقًا؟ في هذه اللوحة، ينهار الجدار الفاصل بين المُشاهَد والمُشاهِد، بين الحقيقة والانطباع، وتتكشف الطبقات المتداخلة للرؤية كما لو كانت دمى روسية داخل بعضها البعض، كل طبقة تكشف عن خدعة جديدة في حيّز الصورة.

تأتي هذه اللوحة كتجلٍ حاسم لتحول في الحس الفني، تحوّل بدأ كرد فعل على مثالية عصر النهضة. ذاك العصر الذي أعاد بعث الجماليات الكلاسيكية من رماد الإمبراطورية الرومانية، ورفع شعار «الطبيعة هي الحقيقة»، حتى في أكثر اللحظات الروحانية. فرسامو النهضة سعوا لإمساك الفضاء على سطح اللوحة، مستخدمين أدوات مثل المنظور الهندسي، والضوء المتدرج، واللون الزيتي الشفاف الذي يتيح للضوء أن يتسلل عميقًا في الطبقات دون أن يكشف أثر الفرشاة، في محاولة لصنع واقع وهمي محكم الإغلاق. لوحة النهضة كانت نافذة مفتوحة على عالم يبدو حقيقيًا، لكنه في جوهره بناء أفلاطوني لفكرة عن الكمال.

لكن السعي نحو هذا «الجوهر» أثقل الروح الفنية، ومع مرور الوقت، بدأ القالب يضيق على خيال الفنان. فجاء التمرد لا على قواعد الرسم فقط، بل على الفكرة ذاتها: أن اللوحة ينبغي أن تُخفي صنعها. في عمل مثل «مادونا ذات العنق الطويل» (1535–1540) لبارميجيانينو، يتخلى الفنان عمدًا عن النسب، يمد الجسد والعنق واليد بلا منطقية، ويزرع القديس جيروم في زاوية اللوحة كتمثال صغير، ملتصق بالسطح، لا يخضع لقوانين العمق. هنا لا يسعى الفنان إلى الإقناع بواقعية، بل إلى لفت الانتباه إلى أن ما نراه «مصنوع»، لا حقيقي.

ومع بزوغ القرن السابع عشر، كان هذا التمرّد قد تفرّع وتجلّى في أشكال أكثر جرأة. كارافاجيو، على سبيل المثال، اختار أن يُغرق مشاهده في ظلال عميقة ويضيئها كأنها مشاهد مسرحية، حيث تنبثق الشخصيات من العتمة لتأسر البصر في لحظة مشحونة. أما إل غريكو، فقد كان يرسم بجسارة زمن لم يأتِ بعد؛ بضربات فرشاة حرة، وجسوم مطوّلة تكاد ترتفع عن سطح اللوحة، كأنها نُسجت من رؤى داخلية لا من مرجع بصري. كانت أعماله أقرب إلى الحلم، إلى الانفعال، إلى الانحراف المقصود عن المنطق البصري، في اتجاهٍ سيُعرف لاحقًا بالتعبيرية.

في هذا السياق المضطرب، لا تبدو «لاس مينيناس» كمحاولة تمرد، بل كفخ فلسفي هادئ، يتقن إخفاء نواياه في ترتيب محكم لكل تفصيلة. ليست مجرد لوحة داخل لوحة، بل دعوة للتأمل في نظرتنا نفسها، في علاقتنا بما نراه، وفي هشاشة الحاجز بين الفن والواقع.

وهكذا، تمضي «لاس مينيناس» في التملّص من التقاليد، ولكن ليس من النظرة الأولى. فأسلوب فيلاسكيز في تنفيذ العمل يحمل ملامح مما قام به إل غريكو، وإن كان أكثر خفوتًا وتحكّمًا؛ فقد دفع باللون وتحكّم في كثافته على سطح القماش بطريقة تبدو هادئة، ولكنها مشحونة بالإيحاء. هذا التوازن بين الانصياع لقوانين الإيهام البصري والانقلاب عليها من الداخل هو جوهر ما يجعل «لاس مينيناس» عملًا خارقًا فهي تلتزم بالقواعد كي تُربكها، وتبني وهمًا واقعيًا لا لكي نصدقه، بل لنفقد ثقتنا به.

في فضاء واسع عالي السقف، يُعتقد أنه إحدى قاعات «الكازار الملكي» - القصر الحصين الذي كان مقرًا للعرش الإسباني في مدريد - تتوزّع شخصيات اللوحة حول الطفلة إنفانتا مارغاريتا تيريزا، ابنة فيليب الرابع، الطفلة التي تُشبه دمية خزفية مهيبة. ويحيط بها جمع نسائي، يتضمن اثنتين من الأقزام على يمين المشهد في إشارة غريبة إلى تقليد كان سائدًا في بلاط الملوك الأوروبيين، حيث كان يتم تضمين الأشخاص المصابين بالتقزّم في الحاشية، لإبراز ضخامة مظهر الملك خلال المناسبات.

تفصيل يُظهر دون خوسيه نيتو فيلاثكيث عند الباب في خلفية اللوحة

 

إنفانتا مارغاريتا، التي تنظر مباشرة إلى المتلقي، تقف في مركز المشهد كزهرة مضيئة، ترتدي فستانًا حريريًا واسعًا يحمل ثقل السلطة الرمزية على جسدها الصغير. قد يُظن للوهلة الأولى أن «لاس مينيناس» تمثيل طقوسي لطفولة ملكية محاطة بأدوات السلطة ومن بينها، على نحو غير مألوف، فيلاثكيث نفسه، الذي يصوّر ذاته على يسار المشهد، يقف خلف لوحة ضخمة، ينظر من حولها بينما يرسم شيئًا لا نراه. فمن هو إذًا موضوعه الحقيقي؟ أهي إنفانتا؟ موضعها لا يتّسق مع مكانة "الموضوع" الرئيسي في اللوحة. فإلى من إذًا يوجّه ريشته؟

الإجابة تختبئ في مؤخرة الغرفة، حيث ينفتح المنظور البصري تدريجيًا باتجاه جدار خلفي علّقت عليه لوحة تظهر فيها صورة مزدوجة للملك فيليب الرابع وزوجته ماريانا النمساوية، والدة مارغاريتا. يبدو للوهلة الأولى أنها لوحة معلّقة، لكنها في الحقيقة انعكاس في مرآة صغيرة. ما نراه، في حقيقة الأمر، ليس وجودهما داخل الغرفة، بل وجهة نظرهما من خارج اللوحة وهي نفس وجهة نظرنا نحن كمشاهدين. لقد قام فيلاثكيث، في هذه الحركة البصرية العبقرية، بإزالة الجدار الرابع الذي حكم التكوين الفني في النهضة، ووسّع مجال اللوحة من فضاء متخيل إلى عالم محسوس نشارك فيه.

لكن الغموض لا ينتهي هنا. ففي مؤخرة الغرفة، باب ضيّق مفتوح، كاشفًا عن رجل يقف على سلم، بجسد جانبي ووجهه يتجه نحونا. إنه دون خوسيه نيتو فيلاسكيز، خازن الملكة ومدير مصنع السجاد الملكي (وقد يكون قريبًا للفنان). يقف بثبات وسط الحركة، قدم على عتبة وأخرى على الأخرى، لكننا لا نعرف أهو في لحظة صعود أم هبوط وكأن الزمن نفسه متوقف، أو عالق في حالة تردّد.

أما موضع الرسّام نفسه، فهو أوضح، وأكثر إثارة للدهشة. فقد منح فيلاسكيز نفسه مكانة أعلى من الملك ذاته؛ حضوره الضمني يقف على قدم المساواة، وربما يتفوق رمزيًا. إنها لفتة طموحة من رجل بدأ حياته كابن كاتب عدل، وصعد ليتبوأ منصب الرسّام الأول للبلاط وحارس مجموعة الملك الفنية. وبهذا الموضع، يلمّح فيلاسكيز إلى أن سلطة الفن الناعمة قد تفوق قوة العرش، وأن الفنان، لا يقل شأنًا عن الملك في صياغة الخلود.

وقد دخلت قراءات «لاس مينيناس» في دهاليز أكثر تعقيدًا، بعض النقّاد ذهبوا إلى أن صورة الملك والملكة ليست انعكاسًا في المرآة، بل هي مشهد للوحة داخل اللوحة أي أن فيلاسكيز يرسمهما في اللحظة ذاتها، بينما نراهما نحن عبر انكسار بصري. وآخرون ذهبوا إلى أن التكوين كله قائم داخل مرآة، أو على الأقل يستند إلى هندسة مراوغة تتحدى المنطق البصري. ما نعلمه يقينًا هو أن اللوحة كانت، في الأصل، أكبر مما هي عليه اليوم؛ فقد قُصّت من جهتيها اليمنى واليسرى بعد أن تضررت في الحريق الذي دمّر الكازار عام 1734. كما أُعيد رسم وجه إنفانتا لاحقًا، ربما لترميم أثر الزمن، أو ربما لإخفاء لحظة صدق لم تعد تلائم البلاط.

في النهاية، لا تنفكّ «لاس مينيناس» عن كشف طبقات مبهمة، لوحة لا تنتهي عند حدودها، بل تتّسع كلما حدّقنا فيها. مرآة كاشفة لا تعكس فقط من يقف أمامها، بل تُجبرنا على أن نسأل: من نكون في هذه المسرحية البصرية؟ مشاهِدون؟ أم جزء من المشهد ذاته؟

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

نظرية الألوان في الفن

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

ما الغاية من الفن؟

featured
Sart
Sart
·21-04-2024

لماذا تُعد لوحات مونيه لزنابق الماء أيقونية للغاية

featured
Sart
Sart
·25-04-2024

هاسوي كاواسي: الفنان الذي ألهم استوديو جيبلي