الحج الفنيّ: حين يدعونا الجمال بأسمائنا

single

المصوّر الفوتوغرافي جاروستاو ستلماشوفيتش (2023)

عبدالله العقيبي

 

لا يُوصف مصطلح «الحج الفني Art Pilgrimage» بعد كمفهوم راسخ في القواميس الأكاديمية أو المعاجم الاصطلاحية الكبرى، إلا أن حضوره في الخطاب الثقافي المعاصر يزداد رسوخًا واتساعًا. ما يعوّض عن غياب التعريف الرسمي هو كثافة الاستخدام التأملي، وتواتر الإشارات إليه في نصوص فنية، وممارسات جمالية، ومدونات شخصية، وصولًا إلى أعمال نقدية تُفكّك العلاقة بين الفن والتنقّل كحالة روحية.

 

في اللغة الإنجليزية، يتداول الباحثون والممارسون عدة تعبيرات مقاربة:

Art pilgrimage

Secular pilgrimage

Cultural or aesthetic pilgrimage

Pilgrimage to the museum

Pilgrimage to masterpieces

 

وقد صاغ بعض الكتّاب الغربيين هذه الفكرة بدقة شاعرية، كما فعل الكاتب الأمريكي فيل كوزينو في كتابه الشهير The Art of Pilgrimage، حيث يعالج معنى الحج خارج الإطار الديني، ويرى فيه فعلًا روحيًا بالمعنى الواسع:

«هنا، لا يعود الحجّ مرتبطًا فقط بالمقامات الدينية أو العقائدية، بل يتّسع ليشمل كل رحلة تتطلب تهيئة داخلية، توقًا، وإحساسًا بأن هناك ما هو أعظم من العابر، يستحق أن نغادر من أجله، ونمشي، وننتظر، ونقف أمامه بصمت».

بهذا المعنى، يصبح العمل الفني العظيم، سواء كان لوحة، أم تمثال، أم مبنى معماري- مقامًا، وموضعًا روحيًا. وقد رصدت مقالات عدة، منها دراسة منشورة فيASAP Journal، كيف أن الحج العلماني إلى الفنون المعاصرة، خصوصًا في المدن الكبرى كبرلين، نيويورك، باريس، طوكيو، يمثل أحد أنماط الوجود الحديث المشبَّع بالروحانية.

بل إن بعض الباحثين يصفون هذا النوع من الممارسة الجمالية، على أنه طقس، فحين يسافر إنسان إلى متحف واحد فقط لرؤية عمل بعينه، فإنه يكون بإزاء تحوّل جماليّ في طبيعة التلقي، حيث لا تعود الأعمال الفنية مجرد موضوعات للذوق، بل تُعامل كأشياء متعالية، كأنها نُصب للحقيقة أو الجمال المطلق.

وإذا أضفنا البعد التواصلي إلى المشهد، فإن وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا إنستغرام، ساهمت في تثبيت هذا النوع من الحج، ترى صورًا لزوار يقفون بذهول أمام لوحات شهيرة، ويعلقون تعليقات مليئة بالتقديس أو الإلهام. وعلى النقيض من الترحال الاستهلاكي العابر، فإن الحجّ الفني يقوم على التمهّل، والتأمّل، وأحيانًا حتى على الطقوس الشخصية.

كل هذا يضع «الحج الفني» كفعل إنساني معاصر على تماس روحي، حتى لو لم يُعلن عن نفسه، فحين يسافر أحدهم آلاف الكيلومترات فقط لرؤية لوحةٍ واحدة، أو للوقوف دقائق أمام تمثال من الرخام، لا يعود السؤال عن العمل الفني في حدّ ذاته، بل عن ذلك الانجذاب الغامض الذي دفع هذا الشخص إلى اتخاذ الرحلة شكلًا من أشكال التوق الداخلي.

إنه لا يسافر لمجرد الرؤية، بل لأن هناك شيئًا يناديه من داخل الصورة. هذا هو جوهر ما يمكن تسميته بـ«الحج الفني»، الانتقال الجسدي من مكان إلى آخر، كاستجابة لبعد فني، وجمال إنساني عميق.

يشبه هذا الفعل، من حيث الجوهر، ما تحدّث عنه ميرسيا إليادِه في كتابه «المقدّس والمدنّس»، حين أشار إلى أن الإنسان القديم لم يكن يحدد وجهته بناءً على المنفعة، بل بناءً على وجود مقام مقدّس، مكان يشع بالمعنى. كذلك هو العمل الفني في هذا السياق، مقام مشعّ بالجمال، أو بالذاكرة، أو بالحقيقة. من هذا المنظور، يبدو الحج الفني فعلًا وجوديًا لا وظيفيًا. ففي الوقت الذي يُحاط فيه الإنسان المعاصر بسيلٍ بصري من الصور والرموز واللوحات الرقمية، يُصبح البحث عن الأصل نوعًا من العودة إلى الذات.

 

لوحة «غيرنيكا» (1937) لبابلو بيكاسو، تصوير: خواكين كورتيز / رومان لوريس.

المتحف الوطني مركز فنون الملكة صوفيا ©

 

أن يقف الشخص أمام لوحة «غيرنيكا» لبيكاسو مثلًا، أو أمام كاتدرائية ذات نمط قوطي، ليس لمجرد الإعجاب بالصنعة، بل ليستشعر أنه أمام أثرٍ تركه العقل أو الروح البشرية ذات يوم، بإيمان داخلي قوي، بصمتٍ عميق، وبقدرة خارقة على التعبير عن الوجود الشخصي في حضرة الجمال كإرث إنساني. في هذا الوقوف، تختلط مشاعر كثيرة، مثل: الخشوع، التأثر، الذهول. يصف بعض الزوار لحظة وقوفهم أمام أعمال مثل «الصرخة» للفنان النرويجي إدفارت مونك، أو «العشاء الأخير» لدافنشي، بأنهم يشعرون بالتحرّر، أو بالتطهر، أو حتى بالعودة إلى لحظة صفاء مفقودة.

تلك ليست مجرد زيارة متحف، بل هي لحظة انخطاف، وهذا البعد الوجودي لا يمكن فهمه من خلال مفردات السياحة، ولا حتى الثقافة بمعناها المعرفي، بل من خلال مقولات أعمق، تلامس الرغبة القديمة في إيجاد المعنى، أو حتى خلاص النفس عبر الجمال.

لوحة «العشاء الأخير» (1495–1498) لليوناردو دافنشي

دير سانتا ماريا ديلي غراتسي، ميلانو © وزارة الثقافة الإيطالية

 

وهنا يلتقي «الحج الفني» مع أعمق ما في الدين من عناصر روحية: السعي، التجرّد، الارتقاء، وكذلك الرجاء، الرجاء في رؤية تمنحك شيئًا لا يُشترى ولا يُصنع، بل يُختبر. لهذا قد لا يكون غريبًا أن كثيرًا من الفنانين أنفسهم يصرّحون بأنهم لا يصنعون أعمالًا ليُعجب بها الناس، بل ليُمارسوا عبرها طقسًا وجوديًا يتجاوزهم، كأنهم يكتبون نداءً سريًا. بعيدًا عن التنظير، ما يمنح «الحج الفني» صدقيّته كظاهرة إنسانية هو ما نشاهده -دون إعلان- في عادات وسلوكيات كثيرة بدأت تتكرّس عالميًا، وتفصل نفسها عن مفاهيم السياحة الاستهلاكية أو الترفيهية. نحن أمام أفراد وجماعات يسافرون من أجل رؤية الفنّ، لا من أجل التسلية أو التقاط الصور السريعة. في اليابان، حيث تتقاطع الروحانية الجمالية مع التصوّف، نرى أوضح صور الحج الفني. فليس غريبًا أن تجد من يدّخر لسنوات من أجل زيارة متحف صغير يضم عملًا نادرًا، أو أن يُخصّص متقاعد كامل مدخراته لرحلة تمتد عبر القارات لرؤية أعمال فان جوخ، أو أوغست رينوار، أو غوستاف كليمت.

بل الأدهى من ذلك أن بعض الشباب اليابانيين يمارسون ما يمكن وصفه بـ«الحج إلى أماكن الأنمي»، وهي ظاهرة جماهيرية يسافر فيها الناس إلى مواقع ألهمت رسامي الأنمي في الحياة الواقعية، مثل: أكيهابارا، وإودايبا، ومعبد سنسو-جي، ليس حبًا في الموقع فقط، بل لأن الصورة التي مرّت أمامهم فنيًا غدت موقعًا مقدّسًا يستحق الزيارة والتأمل.

حي أكيهابارا، طوكيو، اليابان

 

هذه الظاهرة، برغم طابعها الشعبي، تعزز فكرة الحج الفني: أن الصورة، حين تمسّنا، تستحق أن نسير إليها، حتى لو كانت مجرد لقطة من عمل خيالي. في الغرب، تتخذ ظاهرة الحج الفني أبعادًا متعدّدة، في فرنسا، آلاف الزوار يقفون في طوابير طويلة لا لزيارة اللوفر فقط، بل للوقوف أمام لوحة بعينها مثل «الحرية تقود الشعب»، كما لو أن الهدف ليس التجوال، بل الطقس. في إيطاليا، لا تزال كنائس عصر النهضة تجذب زوارًا ليسوا مؤمنين بالضرورة، بل فنانين ومصممين وباحثين يأتون خصيصًا ليتأملوا قبة، أو موزاييك، أو تمثال مايكل أنجلو. وفي الولايات المتحدة، كتب الصحفيون عن رحلات «حج فني» مكرّسة نحو مناطق نائية مثل تاكساس حيث يوجد عمل النحّات دونالد جاد، وقد أصبحت هذه المدينة الصغيرة بمثابة «مقام فنّي»، يقصده الفنانون كحجّ علماني حديث.

رغم حداثة التجربة الفنية المتحفية في العالم العربي، بدأت مظاهر «الحج الفني» تظهر في سلوك بعض الأفراد المهتمين بالفن، ممن يسافرون إلى بينالي البندقية، أو معارض برلين، أو أسبوع باريس للتصوير الفوتوغرافي، ليس من أجل الموضة، بل لرؤية فنية تؤجج فيهم شيئًا عميقًا. كما يُلاحظ، خاصة على منصات مثل إنستغرام، أن كثيرًا من الشباب العربي اليوم يركّز في سفره على توثيق اللحظة مع العمل الفني نفسه، لا مع الكافيهات أو الطبيعة. إنهم لا يلتقطون «سِلفي» من أجل التذكّر، بل صورة تشبه نوعًا من التوثيق الشعائري، كما لو أنهم أدّوا فرضًا أو طقسًا فرديًا خاصًا.

كل هذه المظاهر، المتفرّقة جغرافيًا، والموحّدة وجدانيًا، تشير إلى تحوّل في نظرتنا للفن، من كونه عرضًا يمكن استهلاكه عن بُعد، إلى مقدّسٍ شخصيّ لا يُختبر إلا بالحضور والملامسة. في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، ومع تصاعد تيار الفن المفاهيمي، بدأت أعمال فنية تظهر في أماكن قصية من العالم، بعيدًا عن قاعات العرض والمتاحف، فيما عُرف لاحقًا بـ«فن الأرض Land Art»، لم تكن تلك الأعمال تسعى إلى جمهور واسع أو شهرة تقليدية، بل كانت تُصنع لتكون منسيّة، ولكن مطلوبة بلهفة من قبل قلة تعرف ماذا تعني. أعمال مثل Spiral Jetty لروبرت سميثسون، أو The Lightning Field لوالتر دي ماريا في مقاطعة كاترون، نيو مكسيكو، لا تُشاهد في الصور وحدها، بل يجب أن تُزار. أن يُمشَى إليها. واللافت أن زيارة هذه الأعمال ليست ميسّرة: فبعضها يقع في صحاري نائية، وبعضها لا يمكن رؤيته إلا في مواسم معيّنة من السنة. ومع ذلك، يقصدها الفنانون والنقاد والباحثون والمتذوقون كما لو كانوا في حجّ صامت، لا يحمل نداءً عقائديًا، بل اشتياقًا بصريًا.

إن هذا الشكل من الفن -الذي يشترط الرحلة كجزء من التجربة- لم يكن فعلًا تمثيليًا فحسب، بل فعلًا فلسفيًا أيضًا، فالعمل الفني لم يعد يُقدَّم للمتلقي، بل يشترط عليه السعي، والتحمّل، والانخراط الجسدي في سبيل الوصول والرؤية. بهذا، أصبح فن الأرض أول تجلٍ معاصرٍ لفكرة «الحج الفني»، حيث المكان لم يعد مجرد فضاء معرض فني، بل أصبح هو نفسه موضوعًا روحيًا، وطقسيًا يحتاج أن يُزار ليُفهم. وإذا كانت المتاحف تُنقل إلينا، فإن فن الأرض يعكس المعادلة، نحن من ينقل إليه، سيرًا، ورغبة، وشوقًا. بهذا الربط، يتّضح أن «الحج الفني» ليس فعلًا مستحدثًا من رحم الميديا أو هوس العصر الحديث بالسفر، بل هو امتداد لسلوك فني جوهري في الممارسة المفاهيمية، فالفن لا يُعطى على طبق، بل يُجتهد إليه، يُحجُّ له، لأنه ببساطة أكبر من أن يُحتوى، وأعمق من أن يُرى مصادفة.

كثيرًا ما يخلط الناس بين مفهومي «الحج الفني» و«السياحة الثقافية»، ربما لأن كليهما يتقاطعان ظاهريًا في نقطة واحدة: زيارة أماكن الفن والعمارة والمعرفة. لكن الفارق بينهما ليس في الشكل فقط، بل في النية، والإيقاع، والوظيفة، والتمثُّل الوجداني.

ففي حين أن «السياحة الثقافية» عادة ما تنضوي تحت برامج منظمة، وخرائط متحفية، وجداول زمنية مضبوطة، غالبًا ما تقترب من الفعل الاستهلاكي المحكوم بالإيقاع السريع، والتنوع الكمي، فإن «الحج الفني» فعل قائم على التمهّل، والنية الصافية، والتوق الفردي إلى شيء مخصوص. في السياحة الثقافية، يشاهد الزائر خمسين عملًا في ساعتين، لكن في الحج الفني، ربما يسافر الإنسان لأيام كي يقف أمام عمل واحد لخمس دقائق، يراه كما لو أنه كان في انتظاره، في تلك اللحظة، وفي ذلك الضوء، ومع تلك الرغبة المتبادلة.

في السياحة الثقافية يكون المتحف محطة، وفي الحج الفني يكون مقامًا. هذا التمايز لا يغيّر فقط مسار الرحلة، بل يعيد تشكيل العلاقة بالعمل الفني نفسه، الذي يتحول من كونه شيئًا جميلاً إلى أثر مُلهِم، ومن كونه معروضًا إلى مقصود. والفرق الجوهري الآخر، هو أن السياحة الثقافية ترى الفن جزءًا من سياق معرفي أو حضاري عام، يُقرأ كمدخل إلى التاريخ أو الحضارة، بينما ينظر الحاج الفني إلى العمل الفني باعتباره كائنًا حيًا يستحق اللقاء الفردي، والتلقي غير المشروط بأي خطاب معرفي أو سياسي.

ربما يكمن الفارق الحاسم في أن «الحج الفني» فعل طقسي أكثر منه نشاطًا ترفيهيًا. في داخله نوع من الاستعداد الداخلي، وغالبًا ما يصاحبه صمت داخلي، كما لو أن المتلقي يتهيأ لرؤية أمر مهيب. بينما تبقى السياحة الثقافية، مهما بلغ عمقها، جزءًا من التفاعل المعرفي العام، ولا تخرج عن كونها أداة لاكتساب الثقافة أو التفاخر بها أو الترويح عن النفس من خلالها.

 

لهذا، لا يكفي أن نزور معرضًا فنيًا كي نكون حجاجًا فنيين، كما لا يُشترط في الحج أن نكون باحثين أو نقادًا. الشرط الوحيد هو التورّط الجمالي الكامل، أن نذهب لأن شيئًا بداخلنا لا يهدأ إلا عند الوصول إلى العمل الفني، وأن نعود محمّلين بتلك الرهبة التي لا تُفسَّر. لم تعد علاقة الجمهور بالفن اليوم علاقة قائمة فقط على التلقي الجماهيري، ولا حتى على التجربة الجماعية التي تُصاغ ضمن فضاء متحف أو صالة عرض. لقد أعاد «الحج الفني» صياغة هذه العلاقة، فحوّلها من مشهدية جمعية إلى تجربة شخصية حميمية، تميل إلى الطقس أكثر من العادة، وإلى السعي أكثر من الاستهلاك.

في السابق، كان المتحف أو المعرض يشبه مكانًا تُعرض فيه الأعمال كما تعرض الكتب في المكتبة، يتصفّحها الزائر، وقد يُعجب ببعضها، لكنه يظل على مسافة. أما اليوم، فإن هناك تحولًا واضحًا في الموقف من الفن، يقوم على الرغبة في المعايشة لا المشاهدة فقط. الزائر الذي يسافر خصيصًا لرؤية لوحة أو منحوتة لا يتعامل مع العمل ككائن فني بارد، بل كمخلوق حيّ يجب أن يُلمس بالنظر، ويُحكى عنه لاحقًا كما تُحكى الذكريات المؤثرة.

هذا التبدّل جعل من الفنّ شيئًا لا يُكتفى برؤيته في الكتب أو النسخ الرقمية، بل صار يُطلب بالأصالة، تمامًا كما يرفض المتدين أن يؤدي فرضه عن بُعد، يرفض الحاجّ الفني أن يُشاهد العمل عن طريق الصور، أو حتى بزيارة عابرة؛ لأن ما يبحث عنه ليس الشكل، بل ذلك الأثر، الذي لا يُنقل، بل يُجرَّب. نتج عن هذه التحولات اتساع لفئة من الجمهور الجديد، ليس من فئة النخبة التقليدية، ولا من جمهور الثقافة الأكاديمية، بل من أفراد يعيشون الفن كخلاص، وكوسيلة توازن مع عالم مُضجِر، وضاجّ بالصوت والضوء المشع.

هذا الجمهور ليس بالضرورة ناقدًا أو محترفًا، لكنه ذو حساسية بصرية وروحية عالية، يدرك أن الجمال لا يُمنح للجميع بنفس الدرجة، وأن هناك لحظات نادرة أمام لوحة أو تمثال أو مبنى معماري توازي تجربة وجودية كاملة.

من هنا جاء التحوّل في الوظيفة الثقافية للمتحف أو المعرض أو الموقع الفني. لم يعد مجرد مكان «للتثقيف»، بل أصبح فضاءً للشفاء، والسكينة، والتأمل، ولتجديد العلاقة مع النفس. هناك دراسات حديثة في علم النفس الجمالي تؤكد أن التأمل المطوّل في العمل الفني الأصلي يُفعّل مناطق في الدماغ ترتبط بالإشباع الروحي والانخطاف، بطريقة مشابه  لما يحدث في حالات التأمل أو الصلاة أو الاستغراق الصوفي. بهذا، يكون «الحج الفني» قد غيّر فعل التلقي نفسه، وحرّك الفن من موضعه كسلعة أو فكرة إلى شعيرة مدنية حديثة، تفتح الباب للناس كي يلتقوا بأنفسهم عبر المرئي، كما يلتقي الحاجّ بالمقدس عبر المكان.

في عالم متسارع تزداد فيه قابليّة كل شيء للاستهلاك، يبدو «الحج الفني» فعلًا مناقضًا، وشاذًا بنُبله، ومقاومًا بمنطقه، وإنسانيًا في جوهره. إنه لا يقوم على وفرة الوقت أو المال، بل على ندرة اللحظة التي نُدرك فيها أن هناك عملًا فنيًا ما ينتظرنا، كما ننتظره. عملٌ لا يمكن أن نراه كاملًا إلا إذا وقفنا أمامه، جسدًا، ونفسًا، وبصيرة. لقد تحول الفن، في هذا السياق، إلى ما يشبه المعراج الروحي، نُحلق فيه لا لنرتفع، بل لنستقرّ نفسيًا. ولم يعد الفن حدثًا نعيشه على الشاشة أو نمرّ به في صالة عرض مزدحمة، بل وجهة. 

«الحج الفني» ليس مفهومًا رائجًا فقط، بل هو تجلٍّ معاصر لتوق قديم يسكن الإنسان، توق الرؤية، وملامسة الحقيقة، والامتلاء بالجمال. وقد لا يكون الفن، في النهاية، ما يُعرض علينا، بل ما نمشي إليه، تمامًا كما نمشي نحو من نحب، وما نؤمن به، ونبحث عنه في الظلّ أو النور.

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

شاعريّة المكان بين التّجلّي والتّخلّي: واقعيّة طه حسين وسرياليّة سلفادور دالي

featured
Sart
Sart
·20-12-2023

البراديغم الجماليّ

featured
Sart
Sart
·17-01-2024

سارت: أفقٌ رحب للفنون والجماليّات

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

الفنّ التشكيلي الفلسطيني: ثوب كنعاني يحاول الاحتلال تمزيقه