الجوالون: بينلسكي، كرامسكوي ورفاقه

single

إيفان الرهيب وابنه إيفان، 1885، إيليا ريبين

 

ممدوح عبدالله

في غمرة الحديث عن الآداب الروسية من شعر وقصة ورواية ومسرح، تسطع الرموز التي تحتل مساحة كبيرة عند الجمهور القارئ: بوشكين وقصائده، غوغول وأرواحه الميتة، ليرمنتوف وبطل زمانه، وجودية دوستويفسكي في خوالده، تولستوي بفكره وملاحمه الضخمة. غير أن هناك أمرًا خاصًا لا يلتفت له إلا المهتمون بالنقد الأدبي وتاريخ الأدب الروسي ومساره التاريخي من بطرس الأول حتى منتصف القرن التاسع عشر. ما كان للرواية والقصة الروسية أن تبرز وتثبت وجودها وتستمر في مد الآداب العالمية لو لم تجد لها ناقدًا يقوم بفحص التاريخ الأدبي ونقده وتصحيح مساره وبيان ميزاته وعيوبه وأهميته في المجتمع. من قام بهذه المهمة شاب في الثالثة والعشرين من العمر. كان رأيه كافيًا لأن يرفع من سمعة كاتب وإسقاط آخر. يكفي أن أي سيرة لدوستويفسكي لا تبدأ إلا باقتباس من هذا الناقد الذي بشّر العالم بظهور روائي فذ سيكون له وجود حقيقي في المستقبل القريب. حين قرأ هذا الناقد رواية الفقراء – وهو العمل الأول لدوستويفسكي – قال: «سيأتي على روسيا روائيون كثيرون وستنسى روسيا معظمهم، أمّا أنت فلن تنساك روسيا أبدًا، لأنك روائي عظيم، المجد والشرف للشاعر الشاب الذي تحب آلهة وحيه سكان السقوف والأقبية وتقول عنهم لأصحاب القصور المذهبة: هؤلاء بشر أيضًا، هؤلاء إخوانكم».
أتحدث هنا عن فيساريون بيلنسكي. ناقد عصره، وكبير النقاد الأدبيين الروس في القرن التاسع عشر. قراءة تاريخ الأدب وإعادة تقويمه كانت ضرورية عند بيلنسكي لأن طبيعة المجتمع القائم وما يفرزه من ظواهر اجتماعية وثقافية جديدة تستوجب إعادة النظر في كثير من الأمور، ومنها الأدب الذي ذهب بعيدًا عن المجتمع والشعب وظل محصورًا في الطبقة الراقية والنبيلة. عصر بيلنسكي هو عصر هجوم نابليون على روسيا الذي وحّد مختلف اتجاهات الشعب لفترة مؤقتة لصد الاحتلال، ثم أعقبه تزعزع في النظام العبودي وتصاعد في الوعي الاجتماعي. تصاعد تمثل في تقدير تضحيات هؤلاء العبيد عبر تحريرهم بعد التضحيات الجسام، والأخطر من ذلك: استجابة مباشرة لتلك التغيرات تمثلت في انتفاضة تعرف تاريخيًا بانتفاضة الديسمبريين.

ما هو الأدب؟ وما خصوصيته وما أهميته؟ لم يطرح بيلنسكي هذه الأسئلة، بل ذهب مباشرة إلى التاريخ ليفحص كتابات الشعراء والأدباء في القرن الثامن عشر والتاسع عشر في محاولة لرسم طريق جديد يقود للأصالة بعد عقود من المحاكاة.
أهمية نقد بيلنسكي أن هناك شيئًا جديدًا في المسرح الأدبي لم يكن موجودًا من قبل، أي الرواية والقصة. بعد أن ظهر الروائي غوغول على المسرح الأدبي تم وصف أدبه بالسطحي والفنتازي لحداثة هذا النوع من الأدب. كان الشعر هو المتسيّد. وحتى الرواية إن كان لها وجود سابق على أعمال غوغول فهي لا تتخطى مجالها الخاص بالطبقة النبيلة. أي أن هناك أدبًا رسميًا يحظى برعاية النظام الأدبي القديم والنظام العام القيصري، وأدبًا جديدًا يمثله غوغول ورفيقه بوشكين يمثل نوعًا جديدًا لا سابق له. بيلنسكي، اليساري النزعة لدرجة التطرف، عليه أن يدافع عن القيم التي بشّر بها غوغول في أدبه لأنها تشكّل أساس قناعاته الأخلاقية في مواجهة هذا الهجوم، خصوصًا تلك المتعلقة بنظام القنانة. ولكن كيف يدافع عنه؟ من أجل أن يبرز الدور الجديد للرواية والقصة في أدب بوشكين وغوغول، عليه أن يعود للخلف ليقوم النتاج السابق تقويمًا كاملًا وجديًا، ثم يصل إلى تبيان أدب بوشكين وغوغول وأهميته في العصر الجديد.

تقويم النتاج الأدبي في فترة زمنية محددة عند بيلنسكي يعني ربط الأدب بتلك الفترة الزمنية ومعرفة الحراك الاجتماعي حينها. ما هي قيمة ذلك الأدب لعموم الشعب؟ وهل عبّر عن تطلعاتهم وحلل الروح الساكنة في أرواح الناس؟ قبل بوشكين كان هناك شعراء، يملكون من البلاغة وجماليات التصوير ما يكفل لهم الخلد لعقود طويلة، غير أن تأثيرهم كان عند طبقة معينة ولم يمتد إلى قطاعات الشعب العامة. هناك انفصال حاد بين ما يكتبون وبين الواقع الذي غُيّب تمامًا.

إذا كان الأدب على مختلف اتجاهاته معبّرًا عن الواقع، وإذا كان هذا الواقع راكدًا لا حراك فيه، هل من الممكن أن يكون هناك تطور في الأدب أو تغيير في المسار حتى يصل إلى الناس أولًا ويصبح معبّرًا عن مرحلة معينة؟ إن النظرة الجمالية للأدب ضرورية لكنها ليست كافية، بل قد تصبح قوة ضاغطة لتدمير الأدب نفسه لأنه لا يحمل فلسفة وجوده. وفي حالة الخمود الاجتماعي تقل أصالة الأدب ويبدأ الشعراء والكتاب في رحلة للبحث عن أدبيات وأساليب جديدة لمواكبة العصر. لا مناص حينها من محاكاة الطرف الأكثر تأثيرًا وتقليد أسلوبه.

حين بدأ بيلنسكي بنقد أدب ما قبل بوشكين وجد أمامه تيارات أدبية متعددة ونتاجات لم تقوّم. كان هناك رأي شائع بأن لا وجود لشيء اسمه أدب روسي ما قبل الفترة البوشكينية، ولكن كيف يتم الوصول إلى هذه النتيجة؟ لا يحتاج هذا الأمر لنقد أدبي صرف بل يجب النظر إليه من زاوية تاريخية يتم فيها تبيان الحالة الاجتماعية ونقدها ونقد الأدب الذي كان شائعًا في ذلك الزمن. بنقده التاريخي أعلن بيلنسكي رأيه المدعّم بتحليلاته: ليس هناك على الإطلاق أدب روسي قبل الشاعر الروسي الكبير ألكساندر بوشكين. علّة غياب هذا الأدب يعود إلى طبيعة تكوين المجتمع الروسي الذي لم يتبلور حضاريًا وقوميًا لكي يستطيع تقديم عطاء فني نابع من ذاته وماهيته.

إذا كان نقد بيلنسكي للأدب وصل إلى نتيجة كانت متداولة مسبقًا، لماذا ارتبط هذا الرأي به تحديدًا؟ هذه الفكرة طرحت من قبل نقاد معاصرين لبيلنسكي، غير أنه – وهنا الأساس الذي بنى عليه نقده – قام بربط الأدب بروح الشعب. الفكرة الشائعة عن روح الشعب أو الشعبية أن الأدب يتجه للتبسيط حتى يسهل تداوله بين المكونات البسيطة التي تشكّل الغالبية هو أمر غير صحيح عند بيلنسكي ولا تمثّل روح الشعب. هي في نظره تمثّل سمة من سمات الواقعية ظهرت في أعقاب الاتجاه الرومانتيكي، تمثّل نمط الحياة الشعبية بكل تجلياتها. يتطلّب من الرواية أو المسرحية أن تعكس عادات الجمهور ومفاهيمه ومشاعره، أمّا إذا ظلّت على حالها مقتصرة على تصوير مجتمع الطبقة العليا فإنها تظل وحيدة. هذه النتيجة التي وصل إليها هي ما كان يطمح ويسعى إليه، لأن المساحة مفتوحة أمامه لأن يثبت عبقرية الشاعر بوشكين الرومانتيكية وعبقرية نيقولاي غوغول الواقعية، والتي كانت تعتبر حينها أدبًا غريبًا جديرًا بأن يذهب إلى المجهول.

كانت الانطلاقة من بيلنسكي، واتجهت إلى مختلف أنواع الفنون ومنها الفن التشكيلي الذي كان ينتظر لحظة التمرّد. الفن، بكافة أشكاله من فنون موسيقية أو تشكيلية أو معمارية، وحتى الأدب والنقد والفلسفة والعلوم، إذا أصبح محاطًا بالخط الرسمي أو الأعراف والتقاليد التي تحد من انطلاقته، يجب أن تمر عليه فترة زمنية يصبح فيها خاملاً، مكرّرًا، لا جديد فيه. قد يحدث أن يخرج من هذا الفن المحاصر بشتى أنواع هذه الحصارات ما يثير الجدل والإعجاب، لكنه إعجاب لا يتخطى الحدود القصوى للحصار، أي أن هذه الحدود مسموح بها – ضمن الأعراف والتقاليد أو رؤية الدولة – في أضيق الاحتمالات. المبدع حين يقدّم ما يؤمن بأنه قادر عليه، فهو يقدّم ذلك العمل من أعماق روحه، من ذاته، وكأن العمل الفني جزء لا يتجزأ منه. ولكي يستطيع أن يقدّم مثل هذه الأعمال، على الفنان أن يكون حرًا، وأن يكون العمل حرًا، غير محاصر. مسألة أن هذا الفن مقبول أو هذا الفن غير مقبول، يرجع ذلك للمتلقي: إن كان هذا العمل قد عبّر عن فكرة أو فلسفة بطريقة جميلة، أو لم يحسن التعبير ولم يوفق فيها أو تخطّى الحدود الاجتماعية.

الفن التشكيلي الروسي إلى قبل منتصف القرن التاسع عشر كان واقعًا تحت سلطة أكاديمية الفنون: سلطة تحد من الانطلاق، تعتمد على تقليد الفنانين الأوروبيين، لا يوجد فيها مساحات واسعة من حرية الفنان باختياره للعمل والرؤية الفنية. مهمة الفن التشكيلي تحت هذه الأجواء مجرد إنتاج أعمال فنية تعرض في دوائر الدولة – ممثلة في الأكاديمية – دون أن يتفاعل معها الجمهور ويتذوقها ويشعر بها. أعمال فنية تعرض لطبقة محددة: رجال أعمال ومهتمين بالفن ومقتني الأعمال والطبقة الراقية. وتنتهي هذه الأعمال إلى قصور الطبقة النبيلة: بورتريه لشخصيات، أحداث تاريخية فيها من الأساطير الكثير، أو أحداث مقتبسة من التراث الديني. حتى لو أنتج هذا الفن أعمالًا جميلة، يبقى غير مكتمل، لعدم وصوله لطبقات الشعب كافة. إن عملًا مخصصًا لفرد أو مجموعة محددة ليس بفن.

في منتصف القرن التاسع عشر، وفي نهاية إحدى المراحل الدراسية في الأكاديمية الروسية الفنية، أعلنت الأكاديمية عن مسابقة فنية بمناسبة تخرّج طلابها، ومن سيفوز في هذه المسابقة سيحصل على أرفع ميدالية تمنحها الأكاديمية الفنية، ويتم إرساله للخارج لإكمال دراسته، مع تقديم كل أشكال الدعم الفني له من مواد ومعدات وما يتطلّبه العمل الفني. كان موضوع المسابقة: رسم لوحة مقتبسة من الأساطير الفنلندية، تمثل الإله أودين وقد حطّ على كتفيه غرابان، ونام عند رجليه زوج من الذئاب. كانت نتيجة هذه المسابقة أن كل الطلاب الرسامين، وكانوا يمثلون صفوة الطلاب الشباب، رفضوا رسم هذا الموضوع.

كان أساتذة الأكاديمية يعتقدون بأن الطلاب لن يفكروا مجرد تفكير بالخروج عن تقاليد المؤسسة العريقة، لكن الواقع أن كل الطلاب لم يتحفّظوا وحسب، بل وأعلنوا رفضهم لكل أشكال التكبيل الذي تمارسه المؤسسة على فنهم وأعمالهم. وإن كان هنالك مسابقة، يجب أن يكون لكل رسام الحق في أن يرسم أي شيء يرد في ذهنه ويفكر فيه. هذا الرفض كان تمردًا، ليس على المؤسسة الفنية الرسمية وحسب، بل على الدولة، وكان من نتائج ذلك أن هؤلاء الطلاب أصبحوا تحت رقابة الشرطة السرية كونهم أشخاصًا مشبوهين.

undefined

ليلة مقمرة على نهر الدنيبر، 1880، أركيب كوينجي

في تلك الأيام كان تولستوي يفجّر روائعه الأدبيه، وكان دوستويفسكي يثير الصخب بأعماله. ألن يكون هناك أمثالٌ دوستويفسكي وتولستوي في الفنّ التشكيلي؟ لم يتأخّر الجوابُ طويلاً إذ إنّ غالبيّةَ الطلّاب الذين رفضوا رؤيةَ الدولة أصبحوا يقفون بموازاةِ تولستوي ودوستويفسكي: مثل إيفان كرامسكوي – وكان زعيمَ المتمرّدين –، وإيليا ريبيـن وغيرِهم.

في سبعيناتِ القرن التاسع عشر تجمّعت مجموعةٌ من مبدعي الرسم في جماعةٍ عُرفت لاحقًا بالفنّانين الجوالين. كان هدفُهم الأوّل إخراجَ الفنّ من محيطِه في الدوائر الرسميّة وعرضه حصرًا هناك، إلى الشعب، عبر تنظيم مؤتمرات ولقاءات وعروض فنيّةً تجوب مختلفَ الأراضي الروسيّة من بلداتٍ وأقاليمَ ومحافظات. إنّ إخراجَ الفنّ من حصاره وتقديمَه للشعب يتطلّب أن يتغيّر الفنّ من حالة التقليد إلى حالة الإبداع عبر التعبير عن هذا الشعب وشخصياته، بكافّة فئاته. وهذا الإبداع سيُعرّف الشعب على هذا الفنّ ومتابعةَ نجاحاته، ويكون التأثير متبادلاً: نجاحُ الفنّانين وتسهيل بيع أعمالٍهم، وتنميةُ حبّ الفنّ في المجتمع.

لا توجد قوانينُ مكتوبة في رابطة الجوالين. لكلّ واحدٍ منهم الحقّ في التعبير عن فنّه بأيّ صورةٍ وشكلٍ ولون. لكن المهمّ أن يكون نابعًا من ذات الفنّان، معبّرًا عنه، ويتّجه إلى صفوف الشعب.

 

الرحلة الأخيرة، 1865، فاسيلي بيروف

يمكن اعتبار رسالةِ إيفان كرامسكوي بيانًا عامًا لفنّ الجوالين. يقول في رسالةٍ إلى صديقه سوريكوف: «من السهل أن نأخذَ تجاربَ الآخرين، وكلّ ما حقّقته البشريّة وابتكرته، وأخصّ ما أبدعه الفنّانون العظام مثل تيسيان وريفيرا وفلاسكيز وموريلّو وروبنز وفان ديك ورامبرانت، وغيرهم. علّمنا هؤلاء كيف نرسم ونصوّر، وأنا على يقينٍ مثلك بأنّهم كانوا معلّمين حقًّا. لكن دعني أقول لك إنّ أياً من أساليبِهم وطرقِهم في الفنّ لا يناسبني. وأنا كفنّان روسي متواضع وصادق، ذلك أنّنا نفكّر بطريقةٍ أخرى، ورؤيتُنا إلى الفنّ تختلف عن رؤيتِهم تمامَ الاختلاف. فكرْ يا صديقي وقلْ لي بكلّ أمانةٍ ووضوح: هل كان موريلّو أو تيسيان واقعيَّين فعلاً؟ هل كانت شخوصُ لوحاتِهم أجسادًا حيّةً كما نراها في الحياة؟ وهل تخطر على بالك لوحاتُ تيسيان أو روبنز أو رامبرانت حين تشاهد وجوهًا من تلتقيهم من الناس في الحياة يوميًا؟ أستطيع أن أجيب عنك، وبكلّ جرأةٍ وبلا تكلّف إنّهم ليسوا كذلك. فأنت ترى في لوحاتِهم أشخاصًا لم نلتقِ بهم قطّ، ولم يصوّرْهم أحدٌ. إنّ الفنّان الروسي لا يعلّمه أحد، وعليه ألّا يتعلّم من أحد، غير ما يراه من وجوه الناس التي نراها الآن في مدننا الروسيّة. إنّ الأسئلة المطروحة في الفنّ الآن تتطلّب طرقًا وأساليبَ أخرى للتعبير، ولا تساعدنا في ذلك أيّةُ إرشادات تأتي من الإرمتاج أو غيره. لقد مضى على هؤلاء الفنّانين مائتا عام أو ثلاثمائة ونيف من الأعوام، ومع الزمن تغيّرت طريقةُ تفكير الفنّان وحساسيّته أيضًا، فأصبحت شيئًا آخر تمامًا، حتى الألوان تغيّرت وحلّ محلَّها ألوان أخرى، وعليه فإنّ الانطباعاتِ اللونيّة الآن عند الفنّانين تختلف اختلافًا جذريًّا عمّا كانت عليه في الماضي».

حين أقامت جماعة الجوالين معرضهم الأول، أصاب المعرض نجاحًا إلى درجة الوصف بأنه أهم حدثٍ فنيٍّ في بطرسبورج. خرج الفنّان من عزلته الماضية إلى واقع الحياة الحقيقيّة في أهم فترة من فترات التاريخ الروسيّ، وهي فترة إلغاء نظام القنانة وتحرير العبيد وإصلاح الأراضي. وهذا الحدث كان مفصليًا. هدف الفنّ تحت رؤية أكاديمية الفنون كان ينحصر في تزيين القصور والبيوت وتربية الأجيال من خلال أعمالٍ تعبّر عن الأحداث الهامّة في الدولة. وهذه الأحداث الهامّة تلغي الواقع وتقدّم الشخصيات السياسيّة والراقية كمحرّرين وإصلاحيّين. وكذلك هناك موضوعات تستحق الرسم وأخرى يجب ألّا يتجه إليها الفنّ. وإذا تجرّأ الفنّ بأن يتجه للطبيعة، فهناك أفضلية لمناطق محدّدة مثل المناظر الإيطاليّة. أي أنّها طبيعةً بعيدة عن طبيعة الفنّان الروسيّ وأرضه. أمّا رؤية الجوالين فغير هذه النظرة التي تحاصر وتقتل الفنّ: ليس الموضوع جميلاً أو غير جميل، مضحكًا أو حزينًا، بل الأهم يتمثّل في قول الحقيقة. لا تنحصر مهمة الفنّان في التأثير على المشاهد بقدر ما ترمي إلى تهذيب ذوقه الجماليّ، والارتقاء بمقدرته على تلقي الفنّ والتعامل معه. ولكن كيف؟ لوحات الجوالين عبارة عن أقاصيص، لكنها لم تُكتب بالكلمات، وإنما باللون.

File:Ilya Repin Unexpected visitors.jpg

زائر غير متوقع، 1883، إيليا ريبين

هناك عدة فنّانين من هذه الجماعة تميّزوا برؤيتهم الخاصة. البعض منهم تميّز برسم الطبيعة، والبعض الآخر برسم البورتريه، والبعض أبدع برسم أحداث تاريخية مختلفة عن السائد. والبعض منهم نقل روائع التحليل النفسي الذي أبدع فيه الأدباء الروس في لوحاتهم. أجد إيليا ريبين هو الأكثر تميّزًا بينهم. أعماله الفنية قصصٌ دراميّةٌ، وكأن المشاهد يشاهد الصورة ويقرأها ككلمات. ولعل لوحة «إيفان الرهيب» توضح تأثير الصور في لحظة تسجيل حدث. إيفان الرهيب يضرب إحدى زوجاته. يندفع ابنه ووليّ عهده للسيطرة على غضب أبيه، غير أنّ إيفان ليس الأب أو الزوج، بل هو إيفان الرهيب، أعمى لا يرى ما أمامه، فيهوي على وليّ عهده بأداةٍ حادّةٍ بكامل قوّته حتى يسقط الابن صريعًا. ريبين لم يظهر لنا الخلاف الذي وقع بين الأب والابن، ولا اللحظة التي تملّك فيها الغضب الأب. ما نشاهدُ هو النتيجة: الهول، والذعر. عينا الأب تنظر إلى الأمام، وجسد الأب يطوّق الابن القتيل. يقينًا أنّ إيفان لم يعد يرى ما أمامه وهو ممسك برأس وليّ عهده، إذ أنّه مطوّق بالندم، وجسده يعبر برعب عن هذا الندم. التناسق بين الحدث والمكان مبهر، اللون الأحمر ليس محصورًا في الدم الذي يغطي الرأس. الأثاث الجميل والسجادة الحمراء امتزجت مع لون الدم، وكأن اللوحة تصرخ ضد القتل والدم. زميل الرسام، إيفان كرامسكوي يقول: «أنا على يقينٍ من أنّ عدد الجرائم يجب أن تقلّ حتمًا بعد مشاهدة هذه اللوحة». هل كان هذا هو هدف الفنّ؟ قد يكون ذلك ولكن عبر اتجاهٍ آخر. ريبين مولع بتصوير الحياة المعاصرة، وهذه اللوحة – لوحة إيفان الرهيب – تمثل حدثًا قديمًا نوعًا ما، غير أنّها تظلّ وثيقة الارتباط في حياة الرسّام المعاصرة، وهي الفترة التي شهدت تصاعدًا في عمليات الاغتيال، وما يقابلها من أحكام بالإعدام. واللوحة نُشرت للجمهور في ذلك العام الذي اغتيل وأُعدم فيه الكثير من الشخصيات.

ما الذي يجب أن يعكسه البورتريه؟ العرف السائد في الفن يقتضي من الفنان أن يرسم شخصًا ما في أحسن صورة. أمّا الجوالون إيفان كرامسكوي كمثال فيرى أن أهم ما في فن البورتريه هو أن يعكس صورة المرء الحقيقية كما هو في الواقع، دون تزيين أو تدخّل من الرسام.

عندما شاهد ريبين بورتريه كرامسكوي الشخصي أصابه نوع من خيبة الأمل، إذ لم يتضمّن أي تزيين للوجه. فقد رسم كرامسكوي نفسه في اللوحة كما يعتقد بأنّه هو كذلك في الواقع: بارز الوجنتين، بلحية شعثاء خفيفة، وعينين غائرتين. هذه الواقعية في فن البورتريه أكسبت كرامسكوي شعبية جارفة، إذ أصبح مطمعًا لعدد من الكتّاب والشخصيات كي يقوم برسمهم. وإحدى هذه اللوحات كانت للأديب الروسي تولستوي.

بورترية امرأة مجهولة (لوحة) - ويكيبيديا

بورتريه امرأة مجهولة، 1883، إيفان كرامسكوي

تولستوي أصبح ساحة منافسة للرسامين الجوالين: رسمه ريبين في عدّة لوحات بديعة، منها لوحته تلك التي يجلس فيها تولستوي وكأنّه كاهن على كرسي، بلحيته الطويلة، وتولستوي وهو مرتديًا زيه الفلاحي، أشبه بالناسك. تسنّى لإيفان كرامسكوي أن يرسم تولستوي في حياته، في الوقت الذي كان الكثير من الفنانين يحلمون بذلك. وبينما كان كرامسكوي يعمل بريشته محاولًا دراسة وجه تولستوي، كان الكاتب الكبير يراقب هذا الرسام أيضًا. ولم يُخطئ تولستوي حين وصفه بمشروع فنان حقيقي، وفي وقت لاحق ظهر في رواية «آنا كارينينا» نموذج للرسام إيفان كرامسكوي متمثلًا في شخصية الفنان ميخايلوف.

لكن، هل بورتريه تولستوي هو أشهر أعمال كرامسكوي في فن البورتريه؟ بورتريه «امرأة مجهولة» هو أكثر بورتريه شهير لفنان روسي من جماعة الجوالين، بل لعله أشهر بورتريه روسي على الإطلاق. عندما عرضت للمرة الأولى كان السؤال المطروح: من هذه المرأة التي ظهرت في اللوحة بهذا الجمال؟ ترتدي ثيابًا أنيقة، وتجلس في عربة خيل. الرسام فصل ما ترتديه بكلّ حرفية: ثنيّات الملابس وقفّاز اليدين بدقّة باهرة. لم يُجب الرسام عن شخصية هذه المرأة. وطرح ذات السؤال على زميله الرسام إيليا ريبين، وتبيّن أنّه لا يعرف عن هذه المرأة شيئًا، لكنه أجاب: «يبدو أن هذه المرأة ليست بورتريه لشخصية محددة، وإنما هي لوحة لشخصية استمدّها الفنان من مخيلته». وكعادة العمل الفني العظيم الذي يعود للحضور مع أي عمل جديد للفنان، يعود السؤال من جديد حتى سبّب للرسام الضيق والملل حسب تعبيره.

أتذكر نصًا يعطي وصفًا لحالة الفنان، عندما يريد التمعّن في الشخصية المراد رسمها والغوص في أعماقها، حتى يمكن رسمها بصورة هي أقرب إلى الحقيقة أكثر من أي شيء آخر. وإذا كان إيفان كرامسكوي وإيليا ريبين قد اشتهرا بأعمالهما عن تولستوي، فإنّ الرسام فاسيلي بيروف – وهو أحد جماعة الجوالين – رسم المنافس الأكبر: دوستويفسكي.

فيودور دوستويفسكي - ويكيبيديا

بورتريه فيدور دوستويفسكي، 1872، فاسيلي بيروف

تصف آنا غريغوريفنا دوستويفسكي في مذكّراتها مشهد رسم بيروف لدوستويفسكي: «رغب بافل تريتياكوف، صاحب معرض الصور "الغاليري" الشهير في موسكو، وهو من المعجبين بنتاج دوستويفسكي، أن يحصل على صورة زيتية له، فأوفد إلى بطرسبورغ لهذا الغرض الرسام الروسي المعروف فاسيلي بيروف. وقبل أن يبدأ هذا الأخير عمله صار يتردّد علينا يوميًا طوال أسبوع، ويفاجئ دوستويفسكي في شتّى أحواله اللاإنسانية، ويحاوره ويستفزه خصيصًا للخوض في مواضيع شائكة، إلى أن تمكّن من تصيّد أعمق تعبير في ملامح زوجي وهو شارد الذهن غارق في تأمّلاته الفنيّة. التقط بيروف لحظة الإبداع أو الذهول التي كنت ألمسها مرارًا وأنا أدخل على زوجي في مكتبه، فأجده غائصًا في ذاته، يحدّق فيها من الداخل، وأخرج دون أن أكلمه. وفيما بعد يتضح لي أنه لم يشعر بوجودي ولا يصدّق أنني دخلت عليه المكتب في تلك اللحظة. كان بيروف رجلًا ذكيًا لطيف المعشر. وكان دوستويفسكي يرتاح إليه كثيرًا، حتى أنّه كتب عنه في الصحف مرّتين. وقد حضرت جميع لحظات رسم الصورة النصفية الشهيرة في نيسان – أيار 1872. ويتميز هذا البورتريه بقيمة فنية يعترف بها الجميع، ولا تضاهيها من هذه الناحية سوى صورة نصفية أخرى بالحجم الطبيعي لدوستويفسكي رسمها كرامسكوي في اليوم الثاني لوفاة الكاتب».

 

للاستزادة:

  • كتاب «مدرسة الفنانين الجوالين: إيفان كرامسكوي ورفاقه» للدكتور علي خليل، من إصدارات الهيئة السورية للكتاب.

  • كتاب «بيلنسكي» للدكتورة حياة شرارة، من إصدار دار المدى.

المنشورات ذات الصلة

featured
Sart
Sart
·17-12-2023

شاعريّة المكان بين التّجلّي والتّخلّي: واقعيّة طه حسين وسرياليّة سلفادور دالي

featured
Sart
Sart
·20-12-2023

البراديغم الجماليّ

featured
Sart
Sart
·17-01-2024

سارت: أفقٌ رحب للفنون والجماليّات

featured
Sart
Sart
·23-01-2024

الفنّ التشكيلي الفلسطيني: ثوب كنعاني يحاول الاحتلال تمزيقه